كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}:
اعلم، أنّه قد ذكرنا في لفظة: {إيّاك} ما يقتضيه حكم اللسان وما لا حاجة إلى إعادته، أو ذكر مثله، كما لا حاجة أيضا إلى ذكر كلّيّات أسرار بقيّة السورة لأنّا إنّما الكتاب بالكلام على الأصول الكلّيّة، وأمّهات الحكم والعلوم والأسرار العليّة، ليكتفي بها اللبيب حيثما أحيل عليها، فإنّ المقصود الإلماع والإيجاز، لا التصريح والإطناب، فهذه أصول ومفاتيح كلّيّة من فهمها وعرف كيف يطّرد حكمها فيما هو فرع عليها وتبع لها، عرف معظم أسرار القرآن العزيز، بل وسائر الكتب، فلا تتّكل بعد على البسط للكلام منّي، فقد اتّكلت على مزيد فهم وتأمّل منك- إن شاء اللّه تعالى- وإنّما أذكر فيما بعد عقيب الفراغ من وظيفة الظاهر ما تتضمّنه بقيّة السورة مما يختصّ بكلّ آية آية منها من الحكم والأسرار الباطنة، وما بعد الباطن كما سبق به الوعد- إن شاء اللّه تعالى- ولنشرع- بعد هذا التقرير والاكتفاء في ظاهر: {وإيّاك} الثاني بما مرّ في {إيّاك} الأوّل في الكلام بلسان الباطن، فنقول: اعلم، أنّ متعلق الإشارة من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ليس هو متعلّق الإشارة من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لأنّ الأوّل إشارة إلى الأمر الذي ثبت استحقاقه للعبادة عند العابد، وصار منتهى مدى مقصده ووجهته، بحسب علمه أو شهوده، أو اعتقاده المتحصّل من موادّ الظنون والتخيّلات المنبّه عليها من قبل.
ومتعلّق الإشارة من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ليس مطلق ذلك المعبود من كونه معبودا فقط، بل من حيث إنّ له صلاحيّة أن يعين من يعبده فيما لا يستقلّ به العابد إذا طلب الإعانة منه، وفي طلب الاستعانة من العبد دعوى ضرب من الاستطاعة، بصورة تعريف بحالة في العبادة، وعلمه بمكانة المعبود، وما يعامل به، مع اعتراف خفيّ بعدم الاستقلال، وكأنّه يقول: أجد عندي قوّة على تحصيل مطالبي، لكنّي غير متيقّن ولا جازم أنّها وافية بتحصيل الغرض، فلا مندوحة عن معاونة منك لما عندي من التمكّن لأنّ المعونة منك إذا اتّحدت بما عندي من القوّة، رجوت الفوز بالبغية، والوفاء بحقّ العبادة، وإنّي شاكرك على ما منحتني من القوّة، وجدت بها عليّ ابتداء دون سؤال منّي، وبها تمكّنت من طلب العون منك، رجاء القيام بحقّك، والانفراد لك دون تردّد فيك، وتعرّض إلى غيرك. هذا لسان مرتبة العبد.
وأمّا لسان الربوبيّة المستبطنة في ذلك من كون الحقّ أنزل هذا على عباده، وأمرهم بعبادته على هذا الوجه، فهو أنّه سبحانه لمّا علم أنّ القلوب وإن كانت مفطورة على معرفته والعبادة له واللجأ إليه، فإنّ الشواغل والغفلات التي هي من خصائص هذه النشأة تذهل الإنسان في بعض الأوقات عن تذكّر ما يجب تذكّره واستحضاره، فاحتاج إلى التذكير وتعيين ما الأولى له الدؤوب عليه لأنّ ما لا يتعيّن لا يثمر ولا يؤثّر، لا جرم أمره تعالى أن يقول بعد تقديم الثناء عليه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تذكيرا له أنّ الذي تجده من العلم والقوّة وغيرهما، لا تظنّنّ أنّك فيه مستقلّ، أو لك بشيء من الكمالات اختصاص، بل ذلك كلّه منّي ولي، كما قال الكامل المكمّل صلّى اللّه عليه وآله: «إنّما نحن به وله»، فالمرتبة الربانيّة تعرّف العبد بتعذّر الاستقلال في الطرفين، وهذا من غاية العدل حيث ينبّهك الحقّ ذو الجود والفضل والإحسان والنعم التي لا تحصى، على ما لك من المدخل في تكميل صورة إحسانه، ويعتدّ لك بذلك، ويعتبره ولا يهمله كما قال سبحانه معرّفا منبّها: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها} وهذا من التضعيف، ثم قال وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، فافهم، ترشد،- إن شاء اللّه تعالى-
وصل من لسان الجمع والمطلع وبه نختم الكلام على هذا القسم الثاني بعون اللّه ومشيئته اعلم، أنّ اللّه لمّا خلق الخلق لعبادته- كما أخبر- وهبهم من وجوده وصفاته ما قدّر لهم قبوله، فعبدوه به إذ لا يصحّ أن يعبدوه بهم على جهة الاستقلال، لأنّهم من حيث هم لا وجود لهم، ولا يتأتّى منهم عبادة، ولهذا شرع لهم أن يقولوا بعد قولهم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} قولهم: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لعدم الاستقلال. فانبعثوا عند هذا التنبيه طالبين منه المعونة على عبادته، كما كان القبول منهم لوجوده حالة الإيجاد معونة لاقتداره سبحانه وتعالى. فإنّه لو لا مناسبة ذاتيّة غيبيّة أزليّة يشهدها الكمّل المقرّبون، ما صحّ ارتباط بين الربّ والمربوب، ولا أمكن إيجاد فالإيجاد خدمة وعبادة بصورة إحسان، والعبادة إيجاد لصور أعيان أعمال، وتسوية إنشاء، وإحياء لنشآت العبادة، ليرجع إلى المنشئ ممّا ظهر وانتشأ به كمال لم يكن ظاهرا من قبل، كظهوره بعد الإنشاء، فكذلك الأمر في الطرف الآخر فإنّه لو لا ظهور آثار الأسماء، ما عرف كمالها، ولو لا المرائي المتعيّنة في المرآة الجامعة- التي هي مجلى- ما امتاز من غيب الذات، ولو لا التي ظهر فيها كوامن التعدّدات الحالية، المستجنّة في غيب الذات ما ظهرت أعيان الأسماء.
فنحن العابدون وهو المعبود، وهو الموجد ونحن الموجودون، فلام العلّة المنبّه على أحد حكميها بقوله: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ذاتيّة في الجانبين، فأظهر أحد حكمي هذا السرّ بهذه اللام المذكورة في: {ليعبدون} حكمة ظاهرة، وأخفى حكمها الآخر في قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} حكمة باطنة لأنّ له سبحانه في كلّ شيء- ولاسيما في شرائعه وأوامره وإخباراته- حكما ظاهرة وباطنة يشهدها ويتحقّق بمعرفتها الكمّل والمتمكّنون من أهل الكشف والوجود، ويشعر أهل العلوم الرسميّة من ظاهر تلك الحكم بالأقلّ من القليل منها في بعض الصور التكليفيّة بطريق التعليل.
وأمّا سرّ قوله: نَعْبُدُ ونَسْتَعِينُ بضمير الجمع، فلسرّين كلّيّين كبيرين:
أحدهما: ما سبقت الإشارة إليه من أنّ ظهور عين العبادة والأعمال مطلقا لا يحصل في الوجود العيني إلّا بين الرتبة المشتملة على أحكام الربوبيّة وبين المجلى المذكور المشتمل على أحكام المربوبيّة، فمتعلّق ضمير الجمع بلسان الحقّ والكون حيث ورد، مثل نحن وإنّا و: {نعبد} و: {نستعين} وغير ذلك هو لسان جملة ما يشتمل عليه كلّ واحدة من الرتبتين المذكورتين، فافهم.
وأمّا السرّ الآخر المتضمّن تحقيق ما أجمل، وبيانه، فهو أنّ لكلّ من هاتين المرتبتين:
الربانيّة والكونيّة المشار إليهما نشأة معنويّة غيبيّة، ذات أحوال وحقائق متناسبة متباينة، ولأحكامها فيما بينهما امتزاج وتداخل بائتلاف واختلاف وهي من جانب الحقّ عبارة عن الصورة التي حذيت عليها الصورة الآدميّة، وتعيّنها من غيب الحقّ الذاتي هو من حيث المرتبة الإنسانيّة الكماليّة، المسمّاة هنا بحضرة أحديّة الجمع، المظهرة أعيان الأشياء وأحكام الأسماء والصفات والشؤون الإلهيّة المتقابلة من جهة الأثر، والمتفاوتة في الحيطة والحكم، كالقابض والباسط والمانع والمعطي والمميت والمحيي والعليم والقدير والمريد وك السخط والرضا والفرح والحياء، والغضب والرأفة والرحمة والقهر واللطف، ونحو ذلك ممّا ورد فإنّ لهذا كلّها في حضرة أحديّة الجمع- التي هي البرزخ بين مطلق الغيب الذاتي وبين الحضرة التي امتازت عن الغيب من وجه، وكانت محلّ نفوذ الاقتدار، وهدف أسهم التوجّهات الغيبيّة والآثار- تعيّنا وانتظاما بهيئة غيبيّة علميّة، يضاهيها نظم النشأة الإنسانيّة بقواها الطبيعيّة وأخلاقها الروحانيّة وخصائصها المعنويّة الغيبيّة، والحقيقة الإلهيّة التي تنضاف إليها الصورة المذكورة في مقابلتها العين الثابتة التي للإنسان، وأنّها عبارة عن صورة علم ربّه به أزلا وأبدا في نفسه سبحانه، كما أنّ صورة ربّه عبارة عن صورة علمه سبحانه بذاته وشؤونها وصور عبارة عن صور نسب علمه ونسب علمه في ذوق المقام المتكلّم فيه عبارة عن تعيّنات وجوده التي قلنا: إنّها من حيث تعدّدها أحواله ومن حيث توحّدها عينه، وأحواله تتعيّن في هذا البرزخ المسمّى بحضرة أحديّة الجمع وتظهر متعدّدة في الحضرة الكونيّة التي هي عبارة عن أحد وجهي حضرة أحديّة الجمع المشتمل على صورة الكثرة فإنّ هذه الحضرة هي مقام الكمال الظاهر الحكم بالإنسان الكامل المرآة لغيب الذات ولما تعيّن منه- أي من الغيب المذكور- فيه وبها أيضا.
وهذا البرزخ أيضا عبارة عن مبدأ تعيّنه سبحانه بنفسه لنفسه بصفة ظاهريّته ومظهريّته، وجمعه ببرزخيّته المذكورة بين الطرفين من حيث الإنسان الكامل، وهذا التعيّن البرزخي الوسطي أيضا هو أصل كلّ تعيّن، والمنبع لكلّ ما يسمّى شيئا سواء نسب ذلك التعيّن- أيّ تعيّن كان- إلى الحقّ، بمعنى أنّه اسم له أو صفة أو مرتبة، أو نسب إلى الكون أيضا بهذا الاعتبار الاسمي أو الصفاتي أو المرتبي، أو اعتبر أمرا ثالثا وهو ظهور الحقّ من حيث عينه ثانيا بالنسبة إلى ما قام منه مجلى لسائر تعيّناته أولا كما مرّ، وثالثا ورابعا، وهلمّ جرّا إلى ما لا نهاية له، فيما تعيّن لنفسه منه من كونه غير متعيّن، ثم فيما تعيّن ممّا تعيّن منه وبه، غيبا وشهادة، ممّا يسمّى عينا أو غيرا بالنسبة، فاعلم ذلك.
وإذا تقرّر هذا، فاعلم، أنّ العبارات اختلفت في تعريف حضرة أحديّة الجمع، وكلّها صحيحة.
فإن قلت: إنّها الحقيقة الإنسانيّة الإلهيّة الكماليّة، التي كان كلّ إنسان كامل من حيث صورته الظاهرة مظهرا لتلك الحقيقة ولوازمها، صدقت، وإن سمّيتها برزخ الحضرتين:
الإلهيّة والكونيّة لكونها مشتملة على جميع الأحكام الإلهيّة والإمكانيّة، مع أنّها ليست بشيء زائد على معقوليّة أحديّة جمعها كسائر البرازخ، صدقت أيضا.
وإن سمّيتها مرآة الحضرتين، أو أنّها مرتبة صورة الحقّ والإنسان الكامل من غير تعديد، والحدّ الفاصل بين ما تعيّن من الحقّ، وكان مجلى لما لم يتعيّن منه ولم يتعدّد، صدقت، فكلّ ذلك ذاتي لها دائما أزلا وأبدا. وتقيّد الكمّل الذين هم أصحاب هذه المرتبة، من حيث بعض النشآت التي يظهرون بها بالزمان، لا يقدح فيما أصّلنا، ولا ينافي ما ذكرنا وقرّرنا.
ثم نقول: الإنسان الكامل في كلّ عصر من حيث أحد وجهي هذه المرتبة- أعني الوجه الذي يلي غيب ذات الحقّ ولا يغايره ولا يمتاز عنه- يترجم، عن غيب الذات وشؤونها التي هي حقائق الأسماء بنحن وإنّا ولدينا ونحو ذلك، ومن حيث الوجه الآخر الذي ينطبع فيه الأعيان وأحوالها يترجم عنها وعنه من حيث هي وبلسانها، ومن حيث هو أيضا بلسان جمعيّة خصوصيّته وما حوته ذاته من الأجزاء والخصائص والصفات والقوى الروحانيّة والجسمانيّة الطبيعيّة ب {نعبد} و{نستعين} و{اهدنا} ونحو ذلك، لإحاطة مرتبته الكماليّة هذه، الطرفين وما اشتملا عليه غيبا وشهادة، روحا وجسما، عموما وخصوصا، قوّة وفعلا، إجمالا وتفصيلا، فافهم، وأمعن التأمّل، وراجع ربّك بالتضرّع والافتقار فإنّه إن فكّ لك ختم هذا الكلام، عرفت سرّ الربوبيّة والعبوديّة في كلّ شيء، وسرّ العبادة والتوجّه والطلب والفوز والحرمان، وتحقّقت أنّ كلّ عابد متوجّه من حيث فرعيّته وخلقيّته، إلى أصله الإلهي المتعيّن به من مطلق غيب الذات في المرآة المذكورة الكماليّة الإنسانيّة الإلهيّة، بانعكاس حكميّ راجع من عرصة الإمكان، إلى المرآة المذكورة، فإيّاه يعبد، وإليه يتوجّه، ومنه بدأ، وإليه يعود.
هذا، مع أنّه ما عبد أحد إلّا اللّه، ولا توجّه إلّا إليه، من حيث إنّ تلك المرآة الكماليّة الإلهيّة قبلة كلّ موجود كان ويكون، ومن حيث مواجهة كلّ شيء من هذه المرآة وفيها أصله المحاذي والمتعيّن له به من غيب الذات، فكلّ أحد له قسط من الحقّ أخذه من مشكاة هذه المرتبة الكماليّة المسمّاة هنا بالمرآة، وذلك القسط عبارة عن تعيّن الحقّ من حيث شأن من شؤونه، وذو القسط صورة ذلك الشأن، فافهم.
فو اللّه ما أظنّك تعرف مقصودي إلّا أن أمدّك اللّه بأيده ونوره، وما فاز بالحقّ إلّا الكامل، فإنّه يواجه غيب الذات بأحد وجهيه المنبّه عليه مواجهة ذاتيّة، لا يمتاز المتوجّه فيها عن المتوجّه إليه إلّا بالجمع بين الوجهين المشتملين على أحكام الحضرتين: فهو المطلق المقيّد، والبسيط المركّب، والواحد الكثير، والحادث الأزلي، له وجد الكون، وبه ظهر كلّ وصل وبين، فتنبّه وانظر بما بيّنّا صحّة حكم قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} وقوله الآخر: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} وقضاؤه حكمه بلا شكّ، وأمره الحقيقي نافذ دون ريب، كما قال سبحانه: {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} و{لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}.
فلو لم يكن سرّ العبادة كما ذكر، لزم أن تصحّ عبادة غير اللّه والتوجّه إليه، ولزم تعقيب حكمه وردّ أمره، ويتعالى اللّه عن ذلك وعن كلّ ما لا يليق بجلاله علوّا كبيرا.
فالتخطئة والمؤاخذه وقعتا من أجل الحصر والتعيين والإضافة لأنّ إضافة استحقاق العبادة لشيء واعتقاد أنّه الربّ المطلق التصرّف، ذو الألوهيّة الشاملة الحكم على سبيل حصر هذه الأمور فيه والتعيّن جهل وخلاف الواقع، فصحّت المؤاخذة مع نفاذ الحكم الأوّل والأمر المؤصّل.
وصل من هذا الأصل:
ولمّا كان كلّ واحدة من المرتبتين المذكورتين- اللتين كانت حضرة أحديّة الجمع مرآة لهما وجامعة بالذات بينهما- أصلا من وجه، فرعا من آخر كما سبق التنبيه عليه في غير موضع من هذا الكتاب، من جملة ذلك قولنا: إنّ الحقّ من حيث باطنه مظهر لأحوال العالمين ومرآة من حيث حضرة أحديّة الجمع لأعيانها، فيه يرى البعض منها البعض، ويتّصل حكم البعض بالبعض، ويظهر أثر المتبوع المتقدّم بالشرف المرتبي والوجود والزمان على المتأخّر التابع، وبالعكس أيضا من حيث إنّ التابع المتأخّر من وجه آخر متقدّم متبوع وشرط كما بيّن من قبل في أوّليّة الحقّ من حيث الوجود، وآخريّته من حيث الصفات، كما أخبر سبحانه وأبان بقوله: {اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وبقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ} وفي بيان مرتبة آخريّته من حيث الصفات بقوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} وبقوله عليه السّلام: «من عرف نفسه عرف ربّه» وبقوله: «إنّ اللّه لا يملّ حتى تملّوا» وبقوله: «كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف» الحديث، فافهم، واذكر، ومن حيث إنّ الحقّ مسمّى بالظاهر، كان العالم من حيث حقائقه مظاهر لوجوده ومجالي تعيّنات شؤونه، وكلّ مظهر فغير مرئيّ وإن كان الأثر له، وكلّ منطبع فظاهر ولا ينسب إليه أثر من حيث هو كذلك، فلهذا وغيره قلنا: إنّ كلّ فرع متوجّه إلى أصله وعابد له، ولهذا الموجب وسواه سرت أحكام العبوديّة والربوبيّة في كلّ شيء بحسب ما يليق به، فظهر سرّ المعيّة الإلهيّة الذاتيّة في كلّ شيء بالإحاطة الوجوديّة والعلميّة والحكميّة، فكلّ حاكم فبصفة الربوبيّة، وكلّ مجيب وتابع فبالصفة الأخرى، وقد عرّفتك مراتب ظهور هذه الأمور في الأشياء كيف تكون، ومتى تصحّ، ومتى تمتنع، وفي الشيء الواحد أيضا بحسب شؤونه المختلفة والمحالّ والمراتب والمحالي المتباينة والمؤتلفة، فتذكّر واكتف، واللّه الهادي.
فاتحة القسم الثالث من أقسام أمّ الكتاب:
بموجب التقسيم الإلهي، والتصرف النبوي، وهو آخر أقسامها والخصيص بالعبد، كما كان الأوّل خصيصا بالحقّ، والمتوسّط مشتركا بين الطرفين. اهـ.